فصل: وقال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويقال ترك الخدمة يوجب العقوبة، وترك الحرمة يوجِبُ الفُرْقة.
ويقال كلُّ شيءٍ من المخالفات فللعفو فيه مساغ وللأمل إِليه طريق، وتَرْكُ الحرمة على خَطَر ألا يُغْفَر... وذلك بأن يؤدي ثبوتُه بصاحبه إلى أَنْ يختَلَّ دِينُه وتوحيدُه.
قوله جلّ ذكره: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}.
فالخنزير من جملة المحرمات كذلك النطيحة والموقوذة، وما يجيء تفصيله في نَصَّ الشرع.
قوله جلّ ذكره: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.
من ههاهنا للجِنس لا للتبغيض، وهوى كلِّ من اتبعه معبودُه، وصنمُ كلِّ أحدٍ نَفْسُه.
قوله جلّ ذكره: {واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}: ومن جملة ذلك قول اللسان بما لا يساعده قولُ القلب ونطقه، ومَنْ عاهد اللَّهَ بقلبه ثم لا يفي بذلك فهو من جملة قول الزور.
{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)}.
الحنيف المائلُ إلى الحق عن الباطل في القلبِ والنَّفْسِ، في الجهر وفي السِّرِّ، في الأفعال وفي الأحوال وفي الأقوال.
{غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}: الشِّركُ جَلِيٌّ وخَفِيٌ.
قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا } كيف لا... وهو يهوي في جهنم وتتجاذبه ملائكة العذاب؟ أو تهوى به الريح من مكان سحيق... وكذلك غدًا في صفة قوم يقول الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67].
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} يقف المؤمنُ على تعيين شعائر الله وتفصيلها بشهادة العلم جهرًا، وبخواطر الإلهام سرًّا. وكما لا تجوز مخالفةُ شهادة الشرع لا تجوز مخالفة شهادة خواطر الحق فإِنّ خاطر الحقِّ لا يكذِبُ، عزيزٌ مَنْ له عليه وقوف. وكما أَنّ النَّفْسَ لا تصدق فالقلب لا يكذب، وإذا خولف القلبُ عَمِيَ في المستقبل، وانقطعت عنه تعريفاتُ الحقيقة، والعبارة والشرح يتقاصران عن ذكر هذا التعيين والتفسير. ويقوي القلبُ بتحقيق المنازلة؛ فإذا خرست النفوسُ، وزالت هواجسها، فالقلوب تنِطق بما تُكاشَفُ به من الأمور.
ومنَ الفَرْقِ بين ما يكون طريقه العلم وما طريقه من الحق أن الذي طريقه العلم يعلم صاحبُه أولًا ثم يعمل مختارًا، وما كان من الحق يجري ويحصل ثم بعده يعلم مَنْ جرى عليه ذلك معناه. ولا يكون الذي يجْرِي عليه ما يُجْرَى مضطرًا إلى ما يُجْرَى. وليس يمكن أن يقال إنه ليس له اختيار، بل يكون مختارًا ولَكِن سببَه عليه مشكلٌ، والعجب من هذا أن العبارة عنه كالبعيد.
{لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)}.
لكلِّ من تلك الجملة منفعةٌ بِقَدْره وحدِّه؛ فلأقوام بركاتٌ في دفع البلايا عن نفوسهم وعن أموالهم، ولآخرين في لذاذاتِ بَسطِهم، ولآخرين في حلاوة طاعاتهم، ولآخرين في أُنْسِ أنفاسهم. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في هذا التشبيه أمران أحدهما أن تجعله تشبيها مركبا ويكون قد شبه من أشرك بالله وعبد معه غيره برجل قد تسبب إلى هلاك نفسه هلاكا لا يرجى معه نجاة فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهوى فتمزق مزقا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه ومقابله من المشبه به والثاني أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل بالممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه فمنها هبط إلى الأرض وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير الذي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله سبحانه وتعالى عليه وتؤزه أزا وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء. اهـ.

.وقال ابن القيم:

فصل: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة تعظيم حرمات الله عز وجل:
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30] قال جماعة من المفسرين حرمات الله هاهنا مغاضبه وما نهى عنه وتعظيمها ترك ملابستها قال الليث: حرمات الله: ما لا يحل انتهاكها وقال قوم: الحرمات: هي الأمر والنهي وقال الزجاج: الحرمة ما وجب القيام به وحرم التفريط فيه وقال قوم: الحرمات هاهنا المناسك ومشاعر الحج زمانا ومكانا والصواب: أن الحرمات تعم هذا كله وهي جمع حرمة وهي ما يجب احترامه وحفظه: من الحقوق والأشخاص والأزمنة والأماكن فتعظيمها: توفيتها حقها وحفظها من الإضاعة.
قال صاحب المنازل:
الحرمة: هي التحرج عن المخالفات والمجاسرات التحرج الخروج من حرج المخالفة وبناء تفعل يكون للدخول في الشيء كتمني إذا دخل في الأمنية وتولج في الأمر: دخل فيه ونحوه وللخروج منه كتحرج وتحوب وتأثم إذا أراد الخروج من الحرج والحوب: هو الإثم.
أراد أن الحرمة هي الخروج من حرج المخالفة وجسارة الإقدام عليها ولما كان المخالف قسمين جاسرا وهائبا قال عن المخالفات والمجاسرات: قال: هي على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تعظيم الأمر والنهي لا خوفا من العقوبة فتكون خصومة للنفس ولا طلبا للمثوبة فيكون مستشرفا للأجرة ولا مشاهدا لأحد فيكون متزينا بالمراءاة فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس هذا الموضع يكثر في كلام القوم والناس بين معظم له ولأصحابه معتقد أن هذا أرفع درجات العبودية: أن لا يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه فإن هذا واقف مع غرضه وحظ نفسه وأن المحبة تأبى ذلك فإن المحب لا حظ له مع محبوبه فوقوفه مع حظه علة في محبته وأن طمعه في الثواب: تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة ففي هذا آفتان: تطلعه إلى الأجرة وإحسان ظنه بعمله إذ تطلعه إلى استحقاقه الأجر وخوفه من العقاب: خصومة للنفس فإنه لا يزال يخاصمها إذا خالفت ويقول: أما تخافين النار وعذابها وما أعد الله لأهلها فلا تزال الخصومة بذلك بينه وبين نفسه ومن وجه آخر أيضا: وهو أنه كالمخاصم عن نفسه الدافع عنها خصمه الذي يريد هلاكه وهو عين الاهتمام بالنفس والالتفات إلى حظوظها مخاصمة عنها واستدعاء لما تلتذ به ولا يخلصه من هذه المخاصمة وذلك الاستشراف: إلا تجريد القيام بالأمر والنهي من كل علة بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي وأنه أهل أن يعبد وتعظم حرماته فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته كما في الأثر الإسرائيلي لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد ومنه قول القائل:
هب البعث لم تأتنا رسله ** وجاحمة النار لم تضرم

أليس من الواجب المستح ** ق على ذي الورى الشكر للمنعم

فالنفوس العلية الزكية تعبده لأنه أهل أن يعبد ويجل ويحب ويعظم فهو لذاته مستحق للعبادة قالوا: ولا يكون العبد كأجير السوء إن أعطى أجره عمل وإن لم يعط لم يعمل فهذا عبد الأجرة لا عبد المحبة والأرادة قالوا: والعمال شاخصون إلى منزلتين: منزلة الآخرة ومنزلة القرب من المطاع قال تعالى في حق نبيه داود {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَابٍ} [ص: 25] فالزلفى منزلة القرب وحسن المآب: حسن الثواب والجزاء وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فـ: {الحسنى} الجزاء والزيادة منزلة القرب ولهذا فسرت بالنظر إلى وجه الله عز وجل وهذان هما اللذان وعدهما فرعون للسحرة إن غلبوا موسى فقالوا له: إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال: {نعم وإنكم إذا لمن المقربين} [الشعراء:42] وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبه: 72]
قالوا: والعارفون عملهم على المنزلة والدرجة والعمال عملهم على الثواب والأجرة وشتان ما بينهما.
فصل:
وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم وتحتج بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ودعائهم وسؤالهم والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة كما قال تعالى في حق خواص عباده الذين عبدهم المشركون: إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه كما تقدم وقال عن أنبيائه ورسله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} إلى أن قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89-90] أي رغبا فيما عندنا ورهبا من عذابنا والضمير في قوله: إنهم عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين والرغب والرهب رجاء الرحمة والخوف من النار عندهم أجمعين وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم وجعل منها: استعاذتهم به من النار فقال تعالى: {والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما} [الفرقان: 65-66] وأخبر عنهم: أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار فقال تعالى: {الَّذِينَ يقولونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16] فجعلوا أعظم وسائلهم إليه: وسيلة الإيمان وأن ينجيهم من النار وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب أنهم كانوا يسألونه جنته ويتعوذون به من ناره فقال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} الآيات إلى آخرها ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله: هي الجنة التى سألوها وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 82-89] فسأل الله الجنة واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث وأخبرنا سبحانه عن الجنة: أنها كانت وعدا عليه مسئولا أي يسأله إياها عباده وأولياؤه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته: أن يسألوا له في وقت الإجابة عقيب الأذان أعلى منزلة في الجنة وأخبر: أن من سألها له حلت عليه شفاعته.
وقال له سليم الأنصاري أما إني أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال: أنا ومعاذ حولها ندندن وفي الصحيح في حديث الملائكة السيارة الفضل عن كتاب الناس «إن الله تعالى يسألهم عن عباده وهو أعلم تبارك وتعالى فيقولون: أتيناك من عند عباد لك يهللونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك فيقول عز وجل: وهل رأوني فيقولون: لا يا رب ما رأوك فيقول عز وجل: كيف لو رأوني فيقولون: لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا قالوا: يارب ويسألونك جنتك فيقول: هل رأوها فيقولون: لا وعزتك ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها فيقولون: لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا قالوا: ويستعيذون بك من النار فيقول عز وجل: وهل رأوها فيقولون: لا وعزتك ما رأوها فيقول: فكيف لو رأوها فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد منها هربا فيقول: إني أشهدكم أني قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأعذتهم مما استعاذوا منه».
والقران والسنة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها والاستعاذة من النار والخوف منها قالوا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «استعيذوا بالله من النار وقال لمن سأله مرافقته في الجنة: أعني على نفسك بكثرة السجود» قالوا: والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهم فلا ينسونهما ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار: هو محض الإيمان قالوا: وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه وأمته فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها وقال: «ألا مشمر للجنة فإنها ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وزوجة حسناء وفاكهة نضيجة وقصر مشيد ونهر مطرد الحديث فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن المشمرون لها فقال: قولوا: إن شاء الله» ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله: من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة تحريضا على عمله لها وأن تكون هي الباعثة على العمل: لطال ذلك جدا وذلك في جميع الأعمال قالوا: فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض عليه ويقول: من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية و: «من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة» و: «من كسا مسلما على عرى كساه الله من حلل الجنة» و: «عائد المريض في خرفة الجنة» والحديث مملوء من ذلك أفتراه يحرض المؤمنين على مطلب معلول ناقص ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه.
قالوا: وأيضا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ويستعيذوا به من ناره فإنه يحب أن يسأل ومن لم يسأله يغضب عليه وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب مرضي له وطلبها عبودية للرب والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها.
قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهرب من هذه: فترت عزائمه وضعفت همته ووهى باعثه وكلما كان أشد طلبا للجنة وعملا لها: كان الباعث له أقوى والهمة أشد والسعي أتم وهذا أمر معلوم بالذوق.
قالوا: ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد وزينها لهم وعرضها عليهم وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها وما عداه أخبرهم به مجملا كل هذا تشويقا لهم إليها وحثا لهم على السعى لها سعيها.
قالوا: وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} وهذا حث على إجابة هذه الدعوة والمبادرة إليها والمسارعة في الإجابة والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه والطعام والشراب والحور العين والأنهار والقصور وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم وسماع كلامه وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا فأيسر يسير من رضوانه: أكبر من الجنان وما فيها من ذلك كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبه: 72] وأتى به منكرا في سياق الإثبات أي أي شيء كان من رضاه عن عبده:
فهو أكبر من الجنة قليل منك يقنعني ** ولَكِن قليلك لا يقال له قليل

وفي الحديث الصحيح حديث الرؤية: «فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إلى وجهه» وفي حديث آخر: «أنه سبحانه إذا تجلى لهم ورأوا وجهه عيانا»: نسوا ما هم فيه من النعيم وذهلوا عنه ولم يلتفوا إليه ولا ريب أن الأمر هكذا وهو أجل مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال ولاسيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحبة فإن المرء مع من أحب ولا تخصيص في هذا الحكم بل هو ثابت شاهدا وغائبا.
فأي نعيم وأي لذة وأي قرة عين وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها وقرة العين بها وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب الذي لا شيء أجل منه ولا أكمل ولا أجمل قرة عين ألبتة وهذا والله هو العلم الذي شمر إليه المحبون واللواء الذي أمه العارفون وهو روح مسمى الجنة وحياتها وبه طابت الجنة وعليه قامت.